سوريا وتركيا- جسور من اللغة والثقافة والاقتصاد

المؤلف: د. ياسين أقطاي10.20.2025
سوريا وتركيا- جسور من اللغة والثقافة والاقتصاد

إسماعيل، شاب سوري يمتلك طموحًا جمًا، أبصر النور في الكويت، حيث أكمل مراحل تعليمه الأساسية. لاحقًا، انتقل إلى أراضي تركيا ليكمل دراسته الجامعية في جامعة سكاريا، متخصصًا في علم الاجتماع. بعد إتمام دراسته عاد مجددًا إلى دولة الكويت. خلال سنوات دراسته الجامعية، أتقن إسماعيل اللغة التركية وأصبح من المحبين والعاشقين لها. بعد عودته إلى الكويت، بدأ في البحث عن أفضل السبل لتحديد مساره المهني، ليجد طريقة يتمكن من خلالها من خدمة تركيا التي أحبها. استقر رأيه على أن بناء جسور متينة من التواصل والتعاون بين العرب والأتراك هو أفضل ما يمكن أن يقدمه. تحقيقًا لهذه الغاية، اتخذ قرارًا شجاعًا بافتتاح معهد متخصص في تعليم اللغة التركية في العالم العربي، إيمانًا منه بأهمية هذه المبادرة في الوقت الراهن.

وجد إسماعيل أن معهد يونس إمرة التركي في الكويت يقوم بدور مهم في تلبية هذا الطلب المتزايد على تعلم اللغة التركية، ويهدف إلى توسيع نطاق عمله وتلبية احتياجات المتعلمين بشكل فعال. لكن إسماعيل كان يطمح إلى تحقيق ذلك من خلال مشروع خاص، يتبنى أساليب تعليمية عصرية ومبتكرة. بدأ مشروعه بعدد قليل من الطلاب، لكن سرعان ما تزايد الإقبال على تعلم اللغة التركية، مما دفعه إلى توسيع نطاق عمله خلال فترة وجيزة. اليوم، تحول مشروعه إلى مؤسسة تعليمية راسخة تقدم دورات حضورية وعن بُعد، لا تقتصر على الكويت فقط، بل تشمل جميع دول الخليج العربي. خلال السنوات القليلة الماضية، استفاد ما يقارب خمسة آلاف طالب من مختلف هذه الدورات التعليمية.

لا يخفى على أحد أن هذه المؤسسة التعليمية، التي يديرها ويقوم بالتدريس فيها شباب سوريون من مواليد دولة الكويت، هي مثال حيٌّ على المساهمات القيمة التي يقدمها السوريون في دعم الاقتصاد والثقافة التركية، وتعزيز حضورها وتفاعلها في العالم العربي، وذلك بدرجات متفاوتة وبأشكال متنوعة.

هناك العديد من الأمثلة الأخرى التي تبرز دور السوريين في تقديم خدمات جليلة لتركيا من خلال تعزيز التواصل مع الجمهور العربي. في مراحل متقدمة من الدراسة، ينظم إسماعيل لطلابه جلسات حوارية باللغة التركية، ويدعو شخصيات تركية بارزة للمشاركة فيها وإثراء النقاش، وكان آخر ضيوفه السفيرة التركية توبا نور سونماز، التي قدمت جلسة تفاعلية قيمة ومميزة مع الطلاب.

هذه الجلسات الحوارية تضفي جوًا من التجديد والبهجة على العملية التعليمية، وتتجاوز فائدتها مجرد التدريب على قواعد اللغة التركية، إذ تتيح للطلاب فرصة فريدة لتجربة التواصل الحقيقي باللغة التركية مع شخصيات تركية بارزة، مما يعزز فهمهم للثقافة التركية الغنية.

لقد كانت تجربة مفعمة بالإلهام أن أشارك مع زوجتي، والدكتور أيدن أقطاي من جامعة سكاريا وزوجته، في إحدى هذه الدورات المتميزة، التي جمعت طلابًا من مختلف الأعمار والخلفيات المهنية، والذين أظهروا حماسًا وشغفًا كبيرين لتعلم اللغة التركية.

كانت هذه المحادثات، التي دارت حول تركيا، اللغة التركية، ومواضيع أخرى متنوعة، مثمرة وممتعة للغاية. لقد كان رواد الدورة نخبة من الأشخاص المتميزين، الذين يمتلكون استثمارات في تركيا، ويسعون جاهدين لتعزيز وتوطيد علاقاتهم معها. وقد أبدى العديد منهم اهتمامًا بالغًا بالمسلسلات التركية، لدرجة أنهم كانوا يسردون تفاصيل وأحداث الأعمال الدرامية والتاريخية بكل سهولة ويسر. ويبدو أن المسلسلات الدرامية التركية تجذبهم أكثر من الدراما الغربية، كما أن المسلسلات التاريخية التركية قد أثارت لديهم فضولًا واهتمامًا كبيرًا بالتاريخ التركي الإسلامي العريق، بل عززت لديهم الشعور بالفخر والاعتزاز بالحقبتين العثمانية والسلجوقية الزاهيتين.

هذا الاهتمام المتزايد بالتراث العثماني التركي أدى بشكل ملحوظ إلى زيادة الإقبال على الدراسات الأكاديمية ذات الصلة. فقد شهدت المحاضرات الصيفية التي قدمها أستاذ التاريخ بجامعة الكويت، البروفيسور فيصل الكندري، حول التاريخ العثماني، إقبالًا غير مسبوق من الطلاب والباحثين. وبدعوة كريمة منه، أتيحت لي الفرصة لإلقاء محاضرة أمام طلابه حول جوانب مختلفة من التاريخ العثماني.

على مدى العقدين الماضيين، نجحت تركيا في ترسيخ صورة إيجابية وقوية في جميع أنحاء الدول العربية، وتحولت هذه الصورة إلى مشاعر جياشة من الحب والاحترام والتقدير والتعاطف، بل وصلت إلى حد الشعور بالهوية المشتركة والمصير الواحد. هذا الإنجاز ليس بالأمر الهين، ولا يمكن لأي دولة أو شعب أن يحققه بسهولة، ولا ينبغي لأحد أن يتوهم أن الأمر كان على هذا النحو دائمًا. فقبل عقدين من الزمن، لم تكن هذه هي صورة تركيا في أذهان الشعوب العربية، بل على العكس تمامًا، كانت ذكريات الأحداث السلبية في التاريخ ما تزال حاضرة بقوة، وكان الاعتقاد السائد هو أن تركيا قد ابتعدت عن العالم الإسلامي وتقاربت بشكل كبير مع الغرب.

ولكن بفضل القيادة الرشيدة التي أظهرها الرئيس أردوغان خلال العشرين عامًا الماضية، والنمو الاقتصادي والاجتماعي الذي شهدته البلاد، وتأكيدها النبيل على هويتها الإسلامية في علاقتها مع الغرب، وخاصةً موقف أردوغان الشجاع في منتدى دافوس، ثم موقفه الثابت والداعم للقضية الفلسطينية، وتحديه لإسرائيل والولايات المتحدة في بعض الأحيان، ووقوف تركيا إلى جانب الشعوب العربية خلال ثورات الربيع العربي، ونهجها الإنساني الرحيم تجاه اللاجئين والنازحين الفارين بأرواحهم من سوريا واليمن والعراق وليبيا، كل هذه العوامل مجتمعة ساهمت بشكل كبير في اكتساب تركيا روابط قوية ومصداقية راسخة لدى الشعوب العربية قاطبة.

إن الجهلاء والأغبياء لا يرون من الصورة إلا أن السوريين وغيرهم من اللاجئين قد أتوا إلى تركيا وهم يحملون معهم مشاكلهم ومعاناتهم وأعباءهم الثقيلة فقط. ويخفى عليهم تمامًا أن هؤلاء اللاجئين قد جلبوا معهم أيضًا مشاعر التقدير والدعم والثناء والامتنان من قبل جميع الشعوب العربية، بل وحتى من بعض الحكومات العربية، وذلك بفضل الموقف الإنساني النبيل الذي أظهرته تركيا تجاههم. وبذلك أصبحت تركيا في نظر جميع الشعوب العربية الدولة الأكثر استحقاقًا للدعم والمساندة في جميع الظروف والأحوال، وأصبحت الوجهة المفضلة للتجارة والاستثمار والسياحة.

إن العنصريين والمتطرفين في تركيا يعجزون عن إدراك هذه الحقيقة الساطعة والواضحة، وأدركت أنه لا فائدة ترجى من محاولة إقناعهم، فهؤلاء يكنون الكراهية والبغضاء للعرب بشكل عام وفي جميع الأحوال، لأنهم في الأصل يكرهون الإسلام وينبذونه. وربما يرون أن المال والسياحة وجميع الفوائد القادمة من العرب غير ضرورية ولا قيمة لها. ولكن هل يجب على جميع الأتراك أن يتبنوا وجهة نظر العنصريين ويروا أن تلك الفوائد القادمة من العالم العربي غير ضرورية؟ وهل يجب على الشعب التركي بأكمله أن يدفع ثمن مواقفهم المستبدة والمتعصبة والوحشية؟

إن واقع الأمر هو أن ما يقوم به هؤلاء ليس مجرد عنصرية عابرة، بل هو بالأحرى ضربة قاسية موجهة ضد الاستثمارات الضخمة التي بذلتها تركيا على مدار عقدين كاملين، والتي لا يمكن تعويضها بمليارات الدولارات. فظهور صور السكين التي لوّح بها أحد الحمقى والمغرضين في مختلف وسائل الإعلام العربية، تحولت إلى فرصة ثمينة يستغلها البعض للنيل من تركيا وتقويض جميع الجهود التي بذلتها الدبلوماسية التركية على مدار سنوات طويلة من العمل الجاد والمثمر.

وبقدر ما يوجد عداء دفين للعرب في الجانب التركي، هناك أيضًا أوساط عربية خبيثة تنتظر بفارغ الصبر الفرصة المناسبة لمعاداة تركيا والإساءة إليها. ولذلك فإن العنصريين العرب والعنصريين الأتراك يخدمون نفس الهدف الخبيث، وحتى لو كانوا صادقين في عنصريتهم المقيتة، فإن أفعالهم المشينة التي تستهدف النيل من بعضهم البعض، تجعلهم في نهاية المطاف يعملون لتحقيق أهداف مشتركة، وكأنهم في حالة من التضامن والتواطؤ. إنها أهداف لن تصب أبدًا في خدمة مصالح أي من العرقين، بل ستخدم مصالح سيدهم المشترك، ألا وهو إسرائيل.

وكما أنّ العنصرية العربية هي سمّ قاتل للعرب، فإنّ العنصرية التركية هي سمّ زعاف للأتراك أيضًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة